فصل: من فوائد أبي السعود في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إثرَ ما بيّن حكمَ القتلِ بقسميه وأن ما يُتصوّر صدورُه عن المؤمن إنما هو القتلُ خطأً شرَعَ في التحذير عما يؤدي إليه من قلة المبالاةِ في الأمور {إِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ الله} أي سافرتم في الغزو، ولِمَا في إذا من معنى الشرطِ صُدِّر قولُه تعالى: {فَتَبَيَّنُواْ} بالفاء، فاطلُبوا بيانَ الأمرِ في كل ما تأتوُن وما تذرون ولا تعجَلوا فيه بغير تدبرٍ ورويّة، وقرئ فتثبّتوا أي اطلُبوا إثباته وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} نهيٌ عما هو نتيجةٌ لترك المأمورِ به وتعيينٌ لمادّة مُهمّةٍ من الموادّ التي يجب فيها التبيينُ، وقرئ السِّلْمَ بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أي لا تقولوا بغير تدبرٍ لمن حياكم بتحية الإسلامِ أو لمن ألقى إليكم مقاليدَ الاستسلام والانقيادِ {لَسْتَ مُؤْمِنًا} وإنما أظهرتَ ما أظهرتَ متعوِّذًا بلِ اقبَلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه، وقرئ مُؤمَنًا بالفتح أي مبذولًا لك الأمانُ، وهذا أنسبُ بالقراءتين الأخيرتين، والاقتصارُ على ذكر تحيةِ الإسلامِ في القراءة الأولى مع كونها مقرونةً بكلمتي الشهادةِ كما سيأتي في سبب النزول للمبالغة في النهي والزجرِ والتنبيهِ على كمال ظهورِ خطئِهم ببيان أن تحية الإسلامِ كانت كافيةً في المُكافّة والانزجارِ عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونةٌ بهما، وقوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} حال من فاعل لا تقولوا منبئ عما يحمِلُهم على العَجَلة وتركِ التأنّي لكن لا على أن يكون النهيُ راجعًا إلى القيد فقط كما في قولك: لا تطلُبَ العلمَ تبتغي به الجاهَ، بل إليهما جميعًا أي لا تقولوا له ذلك حالَ كونِكم طالبين لمالِه الذي هو حُطامٌ سريعُ النفادِ، وقولُه تعالى: {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تعليلٌ للنهي عن ابتغاء مالِه بما فيه من الوعد الضِّمني.
كأنه قيل: لا تبتغوا مالَه فعند الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنِمُكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه، وقولُه تعالى: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} تعليلٌ للنهي عن القول المذكورِ، ولعل تأخيرَه لما فيه من نوع تفصيل ربما يُخِلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم، مع ما فيه من مراعاة المقارنةِ بين التعليلِ السابقِ وبين ما عُلِّل به كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} إلخ، وتقديمُ خبرِ كان للقصر المقيّدِ لتأكيد المشابهةِ بين طرفي التشبيهِ، وذلك إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ والفاء في فمن للعطف على كنتم أي مثلَ ذلك الذي ألقى إليكم السلامَ كنتم أيضًا في بدء إسلامِكم لا يظهرُ منكم للناس غيرُ ما ظهر منه لكم من تحية الإسلامِ ونحوِها فمنّ الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبةَ وعصَم بها دماءَكم وأموالَكم ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائركم، والفاءُ في قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُواْ} فصيحةٌ أي إذا كان الأمرُ كذلك فاطلُبوا بيانَ هذا الأمرِ البيِّنِ وقيسوا حالَه بحالكم وافعلوا به ما فُعل بكم في أوائلِ أمورِكم من قَبول ظاهرِ الحالِ من غير وقوفٍ على تواطُؤِ الظاهِرِ والباطنِ، هذا هو الذي تقتضيه جزالةُ التنزيلِ وتستدعيه فخامةُ شأنِه الجليلِ، و{مِنْ} حسِبَ أن المعنى أولُ ما دخلتم في الإسلام سُمعت من أفواهكم كلمةُ الشهادةِ فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم من غير انتظارِ الاطلاعِ على مواطأة قلوبِكم لألسنتكم فمنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهارِ بالإيمان والتقدّمِ فيه، وأنْ صِرْتم أعلامًا فيه، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فُعل بكم وأن تعتبروا ظاهِرَ الإسلامِ في الكف ولا تقولوا إلخ فقد أبعدَ عن الحق، لأن المرادَ كما عرفتَ بيانُ أن تحصينَ الدماءِ والأموالِ حُكمٌ مترتِّبٌ على ما فيه المماثلةُ بينه وبينهم من مجرد التفوُّه بكلمة اشهادةِ وإظهارِ أن ترتُّبَه عليه في حقهم يقتضي ترتبه عليه في حقه أيضًا إلزامًا لهم وإظهارًا لخطئهم، ولا يخفى أن ذلك إنما يتأتى بتفسيرٍ منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثلَه بتحصين دمائِهم وأموالِهم حسبما ذكر حتى يظهرَ عندهم وجوبُ تحصينِ دمِه ومالِه أيضًا بحكم المشاركةِ فيما يوجبه، وحيث لم يفعل ذلك بل فسّره به لم يبقَ في النظم الكريمِ ما يدل على ترتب تحصينِ دمائِهم وأموالِهم على ما ذكر فمِنْ أين له أن يقول: فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم حتى يتأتى البيانُ وارتكابُ تقديرِه بناءً على اقتضاء ما ذُكر في تفسير المنِّ إياه بناءً على أساس واهٍ؟ كيف لا وإنما ذِكرُه بصدد التفسيرِ وإن كان أمرًا متفرعًا على ما فيه المماثلةُ مبنيًا عليه في حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباتُه في حقه بناءً على ثبوته في حقهم كالتحصين المذكورِ حتى يستحقَّ أن يُتعرَّض له ولا بأمر له دخلٌ في وجوب اعتبارِ ظاهرِ الإسلامِ من الداخلين فيه حتى يصِحَّ نظمُه في سلك ما فُرِّع عليه قولُه: فعليكم أن تفعلوا إلخ.
وحملُ الكلامِ على معنى أنكم في أول الأمرِ كنتم مثلَه في قصور الرتبة في الإسلام فمنّ الله عليكم وبلغتم هذه الرتبةَ العاليةَ منه فلا تستقصروا حالتَه نظرًا إلى حالتكم هذه بل اعتدّوا بها نظرًا إلى حالتكم السابقةِ يردُّه أن قتلَه لم يكن لاستقصار إسلامِه بل لتوهم عدمِ مطابقةِ قلبِه للسانه فإن الآيةَ الكريمةَ نزلت في شأن مِرْداسِ بنِ نهيكٍ من أهل فدَكٍ وكان قد أسلم ولم يُسلمْ من قومه غيرُه فغزتْهم سريةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم غالبُ بنُ فَضالةَ الليثي فهربوا وبقيَ مرداسٌ لثقته بإسلامه فلما رأى الخيلَ ألجأ غنمَه إلى عاقول من الجبل وصعِد فلما تلاحقوا وكبّروا كبّر وقال: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله السلامُ عليكم فقتله أسامةُ بنُ زيدٍ واستاق غنمَه فأخبروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فوجَد وجْدًا شديدًا وقال: «قتلتموه إرادةَ ما معه» فقال أسامةُ: إنه قال بلسانه دون قلبِه وفي رواية إنما قالها خوفًا من السلاح، فقال عليه الصلاة والسلام: «هلا شقَقْتَ عن قلبه» وفي رواية «أفلا شقَقْتَ عن قلبه» ثم قرأ الآيةَ على أسامةَ فقال: يا رسولَ الله استغفِرْ لي، فقال: «كيف بلا إله إلا الله» قال أسامة: فما زال عليه الصلاة والسلام يعيدُها حتى ودِدتُ أن لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ، ثم استغفرَ لي وقال: «أعتِقْ رقبة» وقيل: نزلت في رجل قال: يا رسول الله كنا نطلُب القومَ وقد هزمهم الله تعالى فقصَدْتُ رجلًا فلما أحسَّ بالسيف قال: إني مسلمٌ فقتلتُه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلتَ مسلمًا؟» قال: إنه كان متعوّذًا، فقال عليه الصلاة والسلام: «أفلا شقَقْتَ عن قلبه» {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرةِ والخفيةِ وبكيفياتها {خَبِيرًا} فيجازيكم بحسبها إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشرٌّ فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها بطريق الاستئنافِ وقرئ بفتح إن على أنها معمولُه لِتَبَيَّنوا أو على حذف لامِ التعليل. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ} الْآيَةَ.
رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ «أَنَّ سَرِيَّةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَتْ رَجُلًا وَمَعَهُ غُنَيْمَاتٌ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ؛ فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: لِمَ قَتَلْته وَقَدْ أَسْلَمَ؟ فَقَالَ: إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا مِنْ الْقَتْلِ، فَقَالَ: هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ وَحَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ إلَى أَهْلِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ غُنَيْمَاتِهِ».
قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: الْقَاتِلُ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ قَتَلَ عَامِرَ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيِّ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا دُفِنَ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَكُمْ عِظَمَ الدَّمِ عِنْدَهُ» ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ الْحِجَارَةُ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ لِمُحَلَّمِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حديث: «أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَتَلَ فِي سَرِيَّةٍ رَجُلًا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتَلْته بَعْدَمَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ: إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا، فَقَالَ: هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟» وَذَكَرْنَا أَيْضًا حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ اللَّيْثِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَقَتَلَهُ، فَأَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ بْنِ الْخِيَارِ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ لَقِيت رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ أَسْلَمْت لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْتُلْهُ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَطَعَ يَدِي، قَالَ: لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْته فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا شَرَعَ أَحَدُكُمْ الرُّمْحَ إلَى الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ سِنَانُهُ عِنْدَ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلْيُرْجِعْ عَنْهُ الرُّمْحَ» وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَمَنَةَ الْمُسْلِمِ وَعِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ، وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ أَمَنَةَ الْكَافِرِ وَعِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ؛ وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ فِي آثَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَفِي بَعْضِهَا: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّي فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» رَوَاهُ عُمَرُ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ.
وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَرَادَ قَتْلَ الْعَرَبِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إلَّا بِحَقِّهَا، وَهَذَا مِنْ حَقِّهَا»؛ فَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، فَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ إيمَانِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَأَمَرَنَا بِإِجْرَائِهِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُغَيَّبِ عَلَى خِلَافِهِ.
وَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ إذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ؛ وَهُوَ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ إنِّي مُسْلِمٌ، أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ} إنَّمَا مَعْنَاهُ: لِمَنْ اسْتَسْلَمَ فَأَظْهَرَ الِانْقِيَادَ لِمَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَإِذَا قُرِئَ {السَّلَامُ} فَهُوَ إظْهَارُ تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَمًا لِمَنْ أَظْهَرَ بِهِ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ أَسْلَمْت وَاَلَّذِي قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: «قَتَلْته بَعْدَمَا أَسْلَمَ؟» فَحَكَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ بِإِظْهَارِ هَذَا الْقَوْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ: «لَوْ أَنَّ يَهُودِيَّا أَوَنَصْرَانِيًّا قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ إنَّ دِينَنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ».
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: «وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَمَلَ عَلَى رِجْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِيَقْتُلَهُ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَانَ هَذَا مُسْلِمًا، وَإِنْ رَجَعَ عَنْ هَذَا ضُرِبَ عُنُقُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْإِسْلَامِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يُجْعَلْ الْيَهُودِيُّ مُسْلِمًا بِقَوْلِهِ: «أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ»؛ لِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ يَقُولُونَ، وَيَقُولُونَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ؛ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى إسْلَامِهِ، وَلَيْسَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ مِنْهُمْ إنِّي مُسْلِمٌ وَإِنِّي مُؤْمِنٌ تَرْكًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ وَدُخُولًا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ يُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْمَحُ بِهِ إلَّا وَقَدْ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ.